الجمعة، 1 يناير 2016

"حكم الواقفة في الفتن بين أهل السنة والمبتدعة" للشيخ الفاضل الباحث المفيد / أبي حاتم يوسف بن العيد الجزائري ــ حفظه الله ــ






الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد:

يسرّنا أن نضع بين أيديكم هذا المقال الطيب القيّم"

"حكم الواقفة في الفتن بين أهل السنة والمبتدعة"

للشيخ الفاضل الباحث المفيد /
أبي حاتم يوسف بن العيد الجزائري ــ حفظه الله ــ

نتيجة بحث الصور عن حمل من هنا


نسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين


 
السؤال:  ما موقفنا ممن هو من طلبة العلم ويتوقف في الفتن الواقعة بين أهل السنة والحزبيين كأصحاب الحزبية الجديدة ومناصريها، مع وصوله البيانَ الكافي من أهل السنة على تحزب وفتنة هؤلاء المفتونين.
ويَبني توقفه تحت ستار أن الأمر إنما هو للعلماء، أو تحت ستار التمسك بالأصل وأن المختلفين من أهل السنة قبل أن يطرأ الخلاف، أو أن ذلك من اعتزال الفتن كما كان من شأن السلف...
وغير ذلك مما يحتج به الواقفة مع وقوفهم على أدلة أهل السنة الواضحة على فتنة هؤلاء؟
فهل يُؤخذ عنهم العلم ويُستفاد منهم؟

الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه. أما بعد:
فإنه قد تجلّى لكل ذي بصيرة أمرُ حزبية وفتنة هؤلاء، واتضح الحق وبان،ولم يبق للمعارضة العلمية، ولا العملية محل.
ومن المعلوم أن محل المعارضات وموضع التوقفات -كما قال العلامة السعدي رحمه الله-:  (إذا كان الشيء فيه اشتباه أو احتمالات؛ فتَرد عليه هذه الأمور؛ لأنها الطريق إلى البيان والتوضيح.
فأما إذا كان الشيء لا يحتمل إلا معنى واحداً واضحاً؛ فالمجادلة والمعارضة من باب العبث، والمعارضُ هنا لا يُلتفت إلى اعتراضاته، لأنه يشبه المكابر المنكر للمحسوسات.
وقد قرر الله تعالى في كتابه الكريم هذا المعنى في آيات كثيرة.
يقول الله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29]. أي هذا الحق الذي قامت البراهين الواضحة على حقِّيَّته؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وكقوله جل وعلا: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال:42].
وقد كشف الله هذا المعنى غاية الكشف، في قوله: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال:6]. أي فكل من حاول في الحق بعد ما تبين علمه، أو طريق عمله؛ فإنه غالط شرعاً وعقلاً.
ومن ذلك: أنه لما ذكر جل وعلا الآيات الدالة على وجوب الإيمان، وَبَّخَ ولام المتوقفين عنه بعد البيان، فقال: ﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ *وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق:21].
ولما بين تعالى عظمةَ القرآن وأنه أعلى الكلام، وأوضحه بياناً، وأصدقه وأنفعه ثمرة، قال تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الجاثية:6].
ولما ذكر الله تعالى عظمَ نعمِه الظاهرةِ والباطنة، قال تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ [النجم:55] وقال: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:13]، وقال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس:32].
وكذلك في آيات كثيرة يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمجادلة المكذبين ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:125]، حتى إذا وصل معهم إلى حالة وضوح نور الحق التام، وإزالة الشبه كلها، انتقل من مجادلتهم إلى الوعيد لهم بعقوبات الدنيا والآخرة، والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جداً.
وقد ذكر ذلك وتوسع في بيان هذا المعنى العلامة السعدي رحمه الله في كتابه
النفيس: "القواعد الحسان").

·     فلا تسمعوا لمن ينادي بالسكوت عمن يطعن في أهل السنة الناصحين، ولا تعبئوا بمن يثبط عن النصح لمن استحقه تحت ستار التوقف وغيره مما ليس بحجة شرعية؛ فلا أحد أكبر من الحق.
يقول الله تعالى: ﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾[البقرة :159ـ 160].
وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد أخطاء المخطئين وزيغ الزائغين بحكر على مكلف دون آخر، بل مردّ ذلك إلى العلم والقدرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
ولسنا بهذا نحرض المبتدئين في طلب العلم على الخوض فيما لا يحسنونه، ولكن
يتكلمون بحسب ما وصلهم من الأدلة التي أقامها من يحسن ذلك وهو له أهل.
وقد بيّن الإمام ابن أبي العز -رحمه الله- في كتابه "الاتباع" بأنه إذا كان للمكلف نوع تمييز يتبع أي القولين أرجح عنده، وأقربه إلى الدليل،بحسب تمييزه وقدرته ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ومن عرف أدلة الشرع وكيفية دلالتها؛ فهو من باب أولى أو كما قال.
والله عز وجل يقول: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾.
وقد نقل ابن كثير عن بعض السلف في تفسير الآية: هل من طالب علم فيعان عليه.اهـ
لماذا؟ لأن الحق يسير على من طلبه -بإذن الله- وبذَل الأسباب في سبيل إصابة الحق وتجرد وأخلص لله؛ فالله تعالى يَعِدُ بالتيسير، وهؤلاء يقولون: إنه عسير، وحكر على العلماء!.
وكما قال العلامة النجمي -رحمه الله- بأنه لا ينبغي للمبتدئ في طلب العلم أن يجرح أو يبدع من قبل نفسه، ولكن يأخذ بقول أهل العلم المعتبرين، ولابأس أن يحكي عن أحد من العلماء، إذا تأكد من قولهم ودليلهم.أو كما قال.
وهناك منكرات ظاهرة يشترك في إنكارها العالم وطالب العلم ومن دونه، لوضوح الأدلة فيها.
كإنكار التحزب الذي هو ولاء وبراء ضيق على خلاف ما تقتضيه الشريعة.
وغير ذلك كثير مما صدر ويصدر من أباطيل هؤلاء الحزبيين ومن ناصرهم في عدائهم على أهل السنة الناصحين. ثم يقال بعد ذلك اسكتوا، لا تتكلموا...
وهنا ننبه على شبهة ملعونة خطيرة يرددها أهل الباطل في كثير من الأزمان،
ويردد جنسها كثير من المميعين، عندنا وفي غير بلدنا- وضعها الشيطان لترك
القرآن والسنة، واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة: وهى أن مسائل الجرح والتعديل -الذي هو باب من أبواب الدين العظيمة في القرآن والسنة- لا يعرفها إلا العلماء الكبار والمجتهدون؛ فإن لم يكن الإنسان كذلك؛ فلا تسمع له والإعراض عنه فرض حتم لاشك ولا إشكال فيه؛ لأننا لا نستطيع فهم هذه الأمور لأجل صعوبة فهمها!.
ثم يحددون لهم فلانا وفلانا، دون غيرهم ممن هم أهل سنة واتباع وأهل لهذا الشأن، وأنه يجب فهم هذه المسائل على قول فلان وفلان فقط ولا نخرج عنه.
فتأتيهم بالأدلة والبراهين من أقوال غيرهم من أهل السنة والاتباع مما أقاموا الحجج عليه وعندهم زيادة علم عن غيرهم...؛ فإذا بهم يعادونك ويعتبرون كلامك طعنا في من قلدوه، أو تقدما على العلماء، أو تصدرا ونحو ذلك مما به يلبسون.
وقد نبه على أصل هذه الشبهة الإمامُ محمد بن عبد الوهاب النجدي –رحمه الله- في آخر "الأصول الستة".
وهذه مسألة خطيرة، وقد بيّن شيخ الإسلام -رحمه الله- بأنه متى اعتقد أحد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من أهل العلم -غير النبي صلى الله عليه وسلم- دون آخر؛ فإنه يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.اهـ
وهذا عام سواء كان مطلقا، أو في باب من أبواب الدين كالجرح والتعديل؛
لأنه نزله منزلة المشرّع، والله تعالى يقول: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾.
فالعبرة عند أهل الاتباع حقا بالدليل والبرهان؛ فمن أبانه وأظهره وجب الانصياع والانقياد إلى الأدلة التي أقامها، صغيرا كان أم كبيرا، يقول الله تعالى: ﴿ تَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
·     وأما التوقف (تحت ستار التمسك بالأصل وأن المختلفين من أصل السنة قبل أن يطرأ الخلاف) فهو من الاستدلال بالاستصحاب الذي هو: بقاء الحكم نفيا وإثباتا حتى يقوم دليل على تغير الحال؛ إنما يصح الاحتجاج به عند عدم وجود الدليل الناقل، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين» (1/342) : (فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل).
قال صاحب «مراقي السعود» في « كتاب الاستدلال » :
ورجحـن كــون الاستصحــاب ..... للعـدم الأصــلي مــن ذا الباب
بعد قصارى البحث عن نص فلم ..... يلف وهذا البحث وفقاً منحتم
فإذا وُجد الدليل الناقل بطُل الاحتجاج به.
واعلم-وفقك الله- أن الاستصحاب من أضعف الأدلة، وكل دليل يخالفه، ويكفي لدفعه أضعف الأدلة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في «الطرق الحكمية» (1/111) : (استصحاب
الأصل؛ وهو دليل ضعيف، يدفع بكل دليل يخالفه، ولهذا يدفع بالنكول،
واليمين المردودة، واللوث، والقرائن الظاهرة، فدفع بقول الشاهد الواحد وقويت شهادته بيمين المدعي، فأي قياس أحسن من هذا وأوضح مع موافقته للنصوص والآثار التي لا تدفع).
وقال في «إعلام الموقعين» (1/96-97) : (فإن استصحاب الحال من أضعف
البينات...ولهذا قدم خبر الواحد في أخبار الديانة على الاستصحاب، مع أنه
يلزم جميع المكلفين، فكيف لا يقدم عليه فيما هو دونه).
فإذا حصل خلاف بين أهل العلم في بقاء شخص على السنة، ومنهم من أتى
بالبراهين وأثبت الأدلة التي تنقله عن الأصل الذي كان عليه - كما هو
الحال في فتنة العدني والجابري وشلتهم ومن ناصرهم- فإن الواجب قبول الحق
والوقوف عنده، وأما ردُّه بالاستصحاب مع وجود الدليل الناقل؛ فإنه تقعيد
خبيث؛ إذ هو ردّ للأدلة والحق، وتحكُّم في الأدلة وتلاعب بها..
وإذا طبقنا هذا التأصيل التمييعي فإننا نهدم قواعد الجرح والتعديل، ونهدم جهود الأئمة، ونكون قد اتهمناهم بالظلم والجور..في جميع أحكامهم بالتبديع على من قام الدليل على تبديعه وخروجه عن السنة..
وأما استدلال الذين ينتهجون مسلك الواقفين المعتزلين للفتنة بعدم الخوض في الخلاف،  بما حصل من كثير من السلف من اعتزال الفتن؛ وتطبيقهم ذلك على
ما يحصل من الخلاف فيمن أقام بعض أهل العلم البينات على فتنته وبدعته؛ فإنه استدلال باطل وقياس عاطل!.
إذ أن ذلك لم يكن من السلف في كل اختلاف يحصل، وفي كل فتنة تقع! وإنما
كان اعتزالهم الفتن، في حالات منها: الحروب الحاصلة التي أشكل عليهم الحق فيها ولم يتبين لهم، وفي حال القتال على الملك، وفي الوقت الذي لا يكون فيه أمر جماعة المسلمين مستقرا..، ومن اعتزل منهم الفتنة مع علمه بالمحق فيها، فإنه مأجور في ذلك لاجتهاده، وللصحابة من المكفرات والحسنات ما ليس لغيرهم..
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- مبينا ذلك في «فتح الباري» (13/33) :(واحتج به من لم ير القتال في الفتنة؛ وهم كل من ترك القتال مع علي في حروبه، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة،وغيرهم، وقالوا: يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه، ومنهم من قال: لا يدخل في الفتنة، فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه، وذهب جمهورالصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك؛ على من ضعف عن القتال، أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق،واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد..).
وقال الإمام الطبري -رحمه الله-: (الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطىء أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها) «فتح الباري»(13/31).
ويكون اعتزال الفتن أيضا، حين يخاف المرء على دينه من الفتنة، وهناك من
يحمله على البدع والكفر..حين لا يُسمع للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
وما شرعت الهجرة إلا لذلك، فرارا بالدين من الفتن..
قال تعالى: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف:١٦].
وروى البخاري في «صحيحه» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي على الناس زمان تكون الغنم فيه خير مال المسلم، يتبع بها شعف الجبال، أو سعف الجبال، في مواقع القطر، يفر بدينه من الفتن».
وقد بيّن الإمام ابن رجب ذلك في «فتح الباري» (1/54) عند شرحه الحديث:
(..«يفر بدينه من الفتن» يعني : يهرب خشية على دينه من الوقوع في الفتن؛
فإن من خالط الفتن، وأهل القتال على الملك، لم يسلم دينه من الإثم، إما بقتل معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو المساعدة على ذلك بقول و نحوه، وكذلك
لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسن الفرار منه،
وقد مدح الله من فر بدينه خشية الفتنة عليه، فقال حكاية عن أصحاب الكهف
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ [الكهف:١٦] ..).اهـ
وقال الخطابي في «العزلة» (ص61) : (وكانوا قوما كرهوا المقام بين ظهراني
أهل الباطل، ففروا من فتنة الكفر وعبادة الأوثان، فصرف الله تعالى عنهم شرهم، ودفع عنهم بأسهم، ورفع في الصالحين ذكرهم).اهـ
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَي النَّاسِ أَفْضَلُ، فَقَالَ: « رَجُلٌ يُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ » قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ « مُؤْمِنٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ » متفق عليه.
قال النووي رحمه الله : (وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن، والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم،وجماهير الصحابة والتابعين، والعلماء، والزهاد مختلطين فيحصِّلون منافع الاختلاط : كشهود الجمعة، والجماعة، والجنائز، وعيادة المرضى، وحلق الذكر، وغير ذلك..) «شرح النووي على صحيح مسلم» (13/ 38).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في «شرح رياض الصالحين (1/629) : (قال
المؤلف - رحمه الله تعالى - باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان وخوف الفتنة. ...ولكن أحيانا تحصل أمور تكون العزلة فيها خيرا من الاختلاط بالناس، من ذلك إذا خاف الإنسان على نفسه فتنة مثل أن يكون في بلد يطالب فيها بأن ينحرف عن دينه أو يدعو إلى بدعة أو يرى الفسوق الكثير فيها، أو يخشى على نفسه من الفواحش، فهنا تكون العزلة خيرا له .
ولهذا أمر الإنسان أن يهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد الفسوق إلى بلد الاستقامة فكذلك إذا تغير الناس والزمان، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن».
فهذا هو التقسيم تكون العزلة هي الخير إن كان في الاختلاط شر وفتنة في
الدين، وإلا فالأفضل أن الاختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يدعو إلى حق، يبين السنة للناس فهذا خير،لكن إذا عجز عن الصبر وكثرت الفتن، فالعزلة خير ولو أن يعبد الله على رأس جبل أو في قعر واد).اهـ

* وقد رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث في شأن العزلة، كما حث في أحاديث كثيرة على لزوم الجماعة، وليس في ذلك أي تعارض، وفي بيان ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في «الفروسية» (270) : (هذا في أوقات الفتن والقتال على الملك، ولزوم الجماعة في وقت الاتفاق والتئام الكلمة، وبهذا تجتمع أحاديث النبي التي رغب فيها في العزلة والقعود عن القتال ومدح فيها من لم يكن مع أحد الطائفتين وأحاديثه التي رغب فيها الجماعة والدخول مع الناس فإن هذا حال اجتماع الكلمة وذاك حال الفتنة والقتال والله أعلم والمقصود).اهـ
* ودعوى اعتزال الخلاف والبقاء على ما كان قبل الخلاف، وإن كان مع وجود
الناقل..، استدلالا بما حصل من كثير من السلف من اعتزال الفتن والقتال،واتخاذ بعضهم سيوفا من خشب.. وغير ذلك؛ إنما هو دعوة إلى ترك نصرة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وبيان الحق للناس والرد على أهل الباطل وبيان سبيل المجرمين.. مع وجود من له القدرة على القيام بذلك من أهل العلم والدعاة إلى الله، وتعين نصرة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
وقد قال الإمام ابن باز -رحمه الله-: (فكل فتنة تقع على يد أي إنسان من المسلمين أو من المبتدعة أو من الكفار ينظر فيها؛ فيكون المؤمن مع المحق ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل، وبهذا ينصر الحق وتستقيم أمور المسلمين، وبذلك يرتدع الظالم عن ظلمه، ويعلم طالب الحق أن الواجب التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، عملا بقول الله سبحانه :﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (6/84،85).
ويقول الإمام ابن الوزير رحمه الله في مقدمة كتابه «الأمر بالعزلة في آخر الزمان» (ص49) : (فهذا مختصر مفيد في بيان مرجحات العزلة، في بعض الأوقات والأزمان، لبعض أهل الإيمان، منتزع من صحيح السنة، وآيات القرآن؛ ممن لم يتعين عليه فرض يوجب تركها، من جهاد، أو تغيير منكر، وتعلم، أوتعليم..).اهـ
* واعتزال الفتن مع القدرة على الإصلاح، وتعزيز الحق ونصرته وأهله، ودحض
الباطل وحجته، من صفات الضعفاء الذين لا يقوون على مقاومة الباطل، ومن صفات المخذلين..
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفي كُلٍّ خَيْرٌ» أخرجه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن الذي يصبر على الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» أخرجه الترمذي (2507) وابن ماجه (4031) وغيرهما.
قال الإمام ابن الوزير رحمه الله في «الأمر بالعزلة» (ص165) مبيّنا ذلك:
(فليعتقد المختلي هو الحق؛ من أن الخلوة إنما هي عبادة الضعفاء الذين هم صيد الشيطان إلى الناس، وأن أهل القوة والمرتبة الرفيعة هم الذين لاتضرهم المخالطة، بل يصلحون الناس بخلطتهم، ويقومون بحقوقهم، ويعلمون جاهلهم، ويعينون ضعيفهم، وينصرون محقّهم، ويخذلون مبطلهم، وأن حسنة واحدة من حسناتهم قد تكون خيرا من جميع أعمال المختلي..).اهـ
ولو سرنا على هذا المبدء الباطل؛ مع الخلافات الحاصلة، لعمت الفتن وطمت،
ولفُتح باب كبير لأهل الباطل من أهل البدع والحزبيات والفتن، يسرحون ويمرحون، وينشرون أفكارهم وفرقتهم وحزبيتهم بين الناس، وإذا قام ناصح يبيّن عوارهم ويفضحهم، رموا بهذه القاعدة الخبيثة في طريقه، وأوقفوه وخذلوه وثبطوه عن نصرة الحق، تحت دعوى: (هذه فتنة! فلا ندخل فيها! والأصل البقاء على ما قبل الخلاف! ويحتجون بسكوت من سكت العلماء)!.
وبذلك يضيع الحق وتسقط السنة وأهلها...، وتحيا البدع وأصحابها، وتُعطل الحدود،وكثير من مصالح الناس!!
قال الإمام الطبري رحمه الله: (لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين
المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل، وكسر السيوف، لما أقيم حدّ، ولا أُبطل
باطل، ولوجدَ أهلُ الفسوق سبيلاً إلى ارتكاب المحرمات؛ مِن أخذ الأموال،
وسفكِ الدّماء، وسبي الحريم، بأن يحاربوهم ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم، بأن يقولوا: هذه فتنة! وقد نهينا عن القتال فيها! وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء) «فتح الباري» (13/34).
وقال شيخنا العلامة يحيى بن علي الحجوري حفظه الله في «شرح لامية ابن الوردي» (126): (وجاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، تحث على اعتزال فتن الناس مثل حديث: «يوشك أن يكون خير مال المسلم: غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»، هذا ولله الحمد لم يتعين، في هذه الأزمنة، فلا يزال الخير موجودًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم إلى قيام الساعة»، ونحن الآن بحاجة إلى المكافحة والمدافعة للباطل، بالدعوة والبيان، والحجة والبرهان).
*******
فعجبا في بُعد هؤلاء -بهذا التأصيل الباطل- عن النصوص النبوية، ومنهج السلف الصالح!
وكيف يدعون بتوقفهم إلى عدم الانحياز إلى هذا الطرف ولا الطرف الآخر!
وإلى ترك الأخذ على يد الظالم، وترك نصرة المظلوم!.. مع ظهور الأخطاء، وظهور الظلم! وظهور فتنة المفتونين، وحزبية المتحزبين الماكرين بالدعوة!
وقد أصبحت هذه الطريقة الآن وتطبيقها على الخلافات الحاصلة، مسلكا خطيرا يدعو إلى زيادة الفرقة والشقاق، وبدل أن يُصلَح الخلاف بين الفريقين بنصرة الحق، والقيام والأخذ على يد الظالم، وحجزه عن ظلمه وبغيه على الدعوة وحملتها، يزيد الخلاف بوجود فريق ثالث من العلماء –كما هي دعوى المتوقفين في قولهم: نرجع إلى العلماء- لا ينحاز إلى هذا ولا إلى ذاك،وتتسع رقعة الخلاف في كل فتنة في البحث عن هذه الطائفة الثالثة، التي يريد المتوقفون أن يجعلوها هي المصيبة، وأنها الحاكمة، وأنها صاحبة الاعتدال، وأن غيرها بين تفريط وإفراط! مع وجود الأدلة والبراهين الكافية على فتنة المبطلين!.
وهذا ما يريده الأعداء من أهل السنة..وتقرير هذه المسلك مما تقرّ به عيونهم ويفرحون له!
وأين هؤلاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ عِقَابٍ» وفي رواية: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ الله مِنْهُ بِعِقَابٍ» أخرجه أحمد (1، 16، 29،) و أبو داود (2/217) والترمذي (2/25، 177) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو في «الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين» للإمام الوادعي،و«السلسلة الصحيحة» (4/88) للإمام الألباني رحمهما الله.
وأين هو من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما؛ كيف أنصره؟ قال «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره» أخرجه البخاري من حديث أنس، ومسلم من حديث جابر نحوه.
وأين هو من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» متفق عليه. وعند مسلم من حديث أبي هريرة «..لا يظلمه ولا يخذله».

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (5/121) : (قوله: «لا يسلمه» أي لا
يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبا، وقد يكون مندوبا، بحسب اختلاف الأحوال).
والأدلة على ذلك كثيرة.
فهؤلاء الذين يظنون ويزعمون أنهم بتوقفهم يكون الحل عند وقوع الخلاف! إنما ذلك منهم في الحقيقة -كما مر- تأصيل تخذيلي تثبيطي عن نصرة الحق والأخذ على يد الظالم، وتمييع لجانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعود على الجرح والتعديل بالهدم، وإسقاط أهله.. وهو في الحقيقة، عين الفتنة وإفشاء الشقاق والخلاف!.
يقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران:104،105].
قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: (والأمة إذ لم تقم بهذا الواجب، فإنها سوف تتفرق بها الأهواء، وسيكون كل قوم لهم منهاج يسيرون عليه، لكنهم إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، اتفق منهاجهم وصاروا أمة واحدة كما أمرهم الله بذلك..) «شرح رياض الصالحين» (1/509 ط دار السلام).

وصدق نبيّنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إذ قال: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» أخرجه مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه.
وهذا مصير صاحب هذه المسالك التخذيلية.
*******
وخلاصة ما سلف، يبينها العلامة النحرير أحمد بن يحيى بن علي النجمي –رحمه الله تعالى- حيث سئل: ما حكم أهل السنة الواقفين في الفتن بين أهل الأهواء وأهل السنة؟
فأجاب: (من كان من طلبة العلم، ووقف وقوف حيرة وارتباك، لا يدري مَن مِن
الفئتين على الحق، ومن على الباطل؛ فهو يُعلَّم ويُبيَّن له ما عند أهل الأهواء من بعد عن الحق، ومعاداة لأهله، ومن أصرَّ بعد البيان، فهو يلحق بأهل الأهواء) «الفتاوى الجلية» (2/71).
هذا، والكلام على هذا الموضوع يطول، وحسبنا ذكر إشارة إلى حقيقة هذه الدعاوى مع جملة من الأدلة الناسفة لها.
وانظر للاستزادة ما كتبناه في "مصباح الظلام" ردا على هذه التأصيلات الباطلة، والله الموفق.

وسبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.



كتبه :
أبو حاتم  يوسف بن العيد الجزائري
ـ كان الله له في الدارين ـ
بحجر الديس / محافظة عنابة / الجزائر

12/ربيع الأول/1437هـ